الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (80): {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}{ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً} قرأ الحرميان، والنحويان، والأعشى والبرجمي: برفع الراء على القطع، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله، قاله سيبويه، والزجاج. وقال ابن جريج: عائد على: بشر، الموصوف بما سبق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى على هذه القراءة: أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أرباباً، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره. وإن كان الضمير عائداً على الله فيكون إخباراً من الله أنه لم يأمر بذلك، فانتفى أمر الله بذلك، وأمر أنبيائه.وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة ولا يأمركم، بنصب الراء، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى: ولا له أن يأمركم، فقدروا: أن، مضمرة بعد: لا، وتكون: لا، مؤكدة معنى النفي السابق، كما تقول: ما كان من زيد إتيان ولا قيام. وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، فلا للتوكيد في النفي السابق، وصار المعنى: ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام.وقال الطبري قوله: ولا يأمركم، بالنصب معطوف على قوله: ثم يقول: قال ابن عطية: وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى. انتهى كلامه. ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على: ثم يقول، وكانت لا لتأسيس النفي، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل: لا، وهو: أن، فينسبك من: ان، والفعل المنفي مصدر منتف فيصير المعنى: ما كان لبشر موصوف بما وصف به انفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له الانتفاء كان له الثبوت، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما، فينتفي قوله: {كونوا عباداً لي} وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضح هذا المعنى وضع: غير، موضع: لا، فإذا قلت: ما لزيد فقه ولا نحو، كانت: لا، لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت: لا، لتأسيس النفي كانت بمعنى: غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له، إذ لو قلت: ما لزيد فقه وغير نحو، كان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت: ماله غير نحو. ألا ترى أنك إذا قلت: جئت بلا زاد، كان المعنى: جئت بغير زاد، وإذا قلت: ما جئت بغير زاد، معناه: أنك جئت بزاد؟ لأن: لا، هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم القيام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين في: لا، وهي أن يكون لتأسيس النفي، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفي، نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم، تريد: ما أريد أن لا تتعلم.وأجاز الزمخشري أن أن تكون: لا، لتأسيس النفي، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي، ثم قال: والثاني أن يجعل: لا، غير مزيده، والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك رباً، قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.قال: والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، وينصرها قراءة عبد الله: ولن يأمركم، انتهى كلام الزمخشري.{أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر، ومعناه: أنه لا يأمر بكفر لا بعد الاسلام ولا قبله، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله.وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع: كفراً. و: بعد، ينتصب بالكفر، أو: بيأمركم، وإذْ، مضافة للجملة الإسمية كقوله: {واذكروا إذ أنتم قليل} وأضيف إليها: بعد، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان..تفسير الآية رقم (81): {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى: لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم، وكان مما ذكر أخيراً اشتراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة، وإن منهم من بدل في كتابه وغير، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره، بل تفرّد بالله تعالى بالعبادة، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته ودينه، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتصديق له، والقيام بنصرته، وإقرارهم بذلك، وشهادتهم على أنفسهم، وشهادته تعالى عليهم بذلك، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم.وقرأ أبي، وعبد الله: ميثاق الذين أوتوا الكتاب، بدل: النبيين، وكذا هو في مصحفيهما. وروي عن مجاهد أنه قال: هكذا هو القرآن، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقاة نقلوا عنه أنه قرأ: النبيين كعبد الله بن كثير وغيره، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان.والخطاب بقوله: وإذ أخذ، يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك، وعلى هذين التقديرين يكون العامل: أذكر، أو: أذكروا، ويجوز أن يكون العامل في: إذ، قال من قوله: {قال أأقررتم} وهو حسن، إذ لا تكلف فيه.قيل: ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ، والعامل فيها: اصطفى، وهذا بعيد جداً.وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن عليّ، وابن عباس، وطاووس، والحسن، والسدّي: أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم، أخذ عليهم أن يصدّق بعضهم بعضاً، وأن ينصر بعضهم بعضاً، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه. وينبو عن هذا المعنى لفظ: {ثم جاءكم رسول} إلى آخر الكلام.وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه: أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصره، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء، ويدل عليه قول عليّ كرّم الله وجهه: ما بعث الله نبياً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه. وروي عن ابن عباس أيضاً: أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.وعلى هذين القولين يكون قوله: {ثم جاءكم رسول} عني به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكون جنساً. ويبعد قول ابن عباس: أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر.قرأ حمزة: لما آتيناكم، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة. و: ميثاق، مضاف إلى النبيين، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله} الآية وما بعدها من قوله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً} أن المراد بقوله {ثم جاءكم رسول} هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء مصدقاً لما معكم. وكثيراً ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ألا ترى إلى قوله {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق} وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي: وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب، أو ميثاق أولاد النبيين، فيوافق صدر الآية ما بعدها، وجعل ذلك ميثاقاً للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّراً بعد النبيين، التقدير: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم. ويبين هذا التأويل قراءة أبي، وعبد الله: ميثاق الذين أوتوا الكتاب، ويبين أيضاً أن الميثاق كان على الأمم قوله: {فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} ومحال هذا الفرض في حق النبيين، وإنما ذلك في حق الأتباع.وقرأ جمهور السبعة: لما، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة: لما، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير، والحسن: لما، بتشديد الميم.فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.أحدها: أن: ما، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها، واللام قبلها موطئة لمجيء: ما، بعدها جواباً للقسم، وهو أخذ الله ميثاق. و: من، في قوله: من كتاب، كهي، في قوله: {ما ننسخ من آية} والفعل بعد: ما، ماضٍ معناه الاستقبال لتقدم، ما، الشرطية عليه. وقوله: ثم جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، فهو في حيز الشرط، ويلزم أن يكون في قوله: ثم جاءكم، رابط يربطها بما عطفت عليه، لأن: جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، و: لتؤمنن به، جواب لقوله {أخذ الله ميثاق النبيين} ونظيره من الكلام في التركيب: أقسم لأيهم صحبت، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي. فلأحسنن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، والضمير في: به، عائد على: رسول، وهذا القول، وهو أن: ما، شرطية هو قول الكسائي.وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه: ما، هاهنا بمنزلة: الذي، ودخلت اللام كما دخلت على: إن، حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، فاللام في: ما، كهذه التي في: أن، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه: ومثل ذلك {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم} إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى.وقال أبو علي: لم يرد الخليل بقوله: بمنزلة الذي أنها موصولة، بل أنها اسم، كما أن الذي اسم ووفرَّ أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً: {وإن كلا لما ليوفينهم} وفي قوله: {وإن كل ذلك لما متاع} انتهى. وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن: ما، في: لما أتيتكم، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء: كالمازني، والزجاج، وأبي علي، والزمخشري، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّاً، وهو أنه: إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت، ومتعلقاته متعلقاته، فإذا قلت: والله لمن جاءني لأكرمنه، فجواب: مَنْ، محذوف، التقدير: من جاءني أكرمه. وفي الآية اسم الشرط: ما، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم، وهو الفعل المقسم عليه، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير: ما، المقدّر، فجواب: ما، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك، لأنه تعرٍّ. والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم؟ ألا ترى أنك لو قلت: والله لئن ضربني زيد لأضربنه؟ فكيف تقدره: إن ضربني زيد أضربه؟ ولا يجوز أن يكون التقدير: والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه، لأن: لأضربنه، لا يدل على: أشكه، فهذا ما يرد على قول من خرج: ما، على أنها شرطية.وأما قول الزمخشري: ولتؤمنن، ساد مسد جواب القسم، والشرط جميعاً فقول ظاهره مخالف لقول من جعل: ما، شرطية، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما، فيمكن أن يقال؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح، لأن كلاًّ منهما، أعني: الشرط والقسم، يطلب جواباً على حدة، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه، فيكون في موضع جزم، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه، فلا موضع له من الإعراب. ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب.والقول الثاني: قاله أبو علي الفارسي وغيره، وهو: أن تكون: ما، موصولة مبتدأة، وصلتها: آتيناكم، والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه، و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره: ثم جاءكم رسول به، فحذف لدلالة المعنى عليه، هكذا خرجوه، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه، وخرجوه على مذهب الأخفش: أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله: لما معكم، لأنه هو الموصول، فكأنه قيل: ثم جاءكم رسول مصدق له، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير، إلاَّ أنه قليل: روي من كلامهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، يريدون: رويت عنه وقال:يريد في رحمته أطمع.وخبر المبتدأ، الذي هو: ما، الجملة من القسم المحذوف وجوابه، وهو: لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على الموصول المبتدأ، ولا يعود على: رسول، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ من رابط يربطها به، والجملة الابتدائية التي هي: لما آتيناكم، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم، وهو قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين}.والقول الثالث: قاله بعض أهل العلم، وهو: أن تكون: ما، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم، التقدير: لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة، قال: إلاَّ أنه حذف: لتبلغن، للدلالة عليه، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف، ثم قال تعالى: {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {لتؤمنن به ولتنصرنه} وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، انتهى. ويعني: يكون: لتؤمنن به، جواب قسم محذوف، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم، والله لزيداً تريد ليضربن زيداً.والقول الرابع: قاله ابن أبي إسحاق، وهو: أن يكون: لما، تخفيف لما، والتقدير: حين آتيناكم، ويأتي توجيه قراءة التشديد.وأمّا توجيه قراءة حمزة: فاللام هي للتعليل، و: ما، موصولة: بآتيناكم، والعائد محذوف. و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والرابط لها بالموصول إما إضمار: به، على ما نسب إلى سيبويه، وإما هذا الظاهر الذي هو: لما معكم، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن.وقول الزمخشري: فجواب: أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على رسول، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، لو قلت: أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه، جاز. وأجاز الزمخشري، في قراءة حمزة، أن تكون: ما، مصدرية، وبدأ به في توجيه هذه القراءة، قال: ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به، على أن: ما، مصدرية، والفعلان معها أعني: آتيناكم وجاءكم، في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف.انتهى كلامه. إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره، وهذا التقدير الذي قدره، أنه تعليل للفعل المقسم عليه، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقه، وهو الإيمان. فاللام متعلقة بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله: لتؤمنن به، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: والله لأضربن زيداً، فلا يجوز: والله زيداً لاضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في: لما، بقوله: لتؤمنن به.وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب، إذا كان ظرفاً أو مجروراً، تقدّمه، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق، وقوله تعالى: {عما قليل ليصبحن نادمين} فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله: لتؤمنن به، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو.وذكر السجاوندي، عن صاحب النظم: أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى: بعد، كقول النابغة: فعلى ذا لا تكون اللام في: لما، للتعليل.وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير، والحسن: لما، فقال أبو إسحاق: أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون: لما، تؤول إلى الجزاء كما تقول: لما جئتني أكرمتك. انتهى كلامه.قال ابن عطية: ويظهر أن: لما، هذه هي الظرفية، أي: لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة.وقال الزمخشري: لما، بالتشديد بمعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته. انتهى. فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن: لما، ظرفية، واختلفا في تقدير الجواب العامل في: لما، على زعمهما. فقدّره ابن عطية من القسم، وقدّره الزمخشري من جواب القسم، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في: لما، المقتضية جواباً، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب، وليست ظرفية بمعنى: حين، ولا بمعنى غيره، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي.وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب (التكميل لشرح التسهيل) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه.وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها: لمن ما، وزيدت: من، في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا، فجاء: لمما، فثقل اجتماع ثلاث ميمات، فحذفت الميم الأولى فبقي: لما.قال ابن عطية: وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير: لما، بفتح الميم مخففة، وقد تقدّم. انتهى.وظاهر كلامه أن: من، في قوله: لمن ما، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة: لما، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد، فقال: وقيل أصله: لمن مّا، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي: الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم، فحذفوا إحداها، فصارت: لما، ومعناه: لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى. انتهى كلامه. وهو مخالف لكلام ابن جني في: من، المقدّر دخولها على: ما، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة، لأنه جعلها للتعليل.وفي قول الزمخشري: فحذفوا إحداهما، إبهام في المحذوف، وقد عينها ابن جني: بأن المحذوفة هي الأولى، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله، فكيف كلام الله تعالى؟ وكان ابن جني كثير التحمل في كلام العرب. ويلزم في: لما، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في: لمن ما آتيناكم، زائدة، ولا تكون اللام الموطئة، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت: أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً، لم يجز، وإنما سميت موطئة لأنها توطئ ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه.وقرأ نافع: آتيناكم، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع، وقرأ الجمهور: آتيتكم، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده، إذ تقدّمه {وإذ أخذ الله} وجاء بعده {إصري}.وقرأ عبد الله: رسول مصدّقاً، نصبه على الحال، وهو جائز من النكرة، وإن تقدّمت النكرة. وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى، لأن المعني به محمد صلى الله عليه وسلم على قول الجمهور، وقوله: لما آتيتكم، إن أريد جميع الأنبياء، وهو ظاهر اللفظ، فإن أريد بالإيتاء الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه، ويكون التعميم في الأنبياء مجازاً، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعياً إلى العمل به صح ذلك في جميع الأنبياء، ويكون التعميم حقيقة. وكذلك إن أريد بالأنبياء المجاز، وهو: أممهم، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هادياً لهم وداعياً.{ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم} أي: ثم جاء في زمانكم. ومعنى التصديق كونه موافقاً في التوحيد والنبوّات وأصول الشرائع، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول: رسول، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الإنقياد لأمر الله، وفي قوله: {مصدّق لما معكم} دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء، فهذان الوجهان محتملان، وأوجب الإيمان أولاً، والنصرة ثانياً، وهو ترتيب ظاهر.{قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} ظاهره أن الضمير في: قال، عائد على الله تعالى، وفي: أقررتم، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف، أهو على ظاهره؟ أم هو على حذف مضاف؟ أم هو مما حذف بعد النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به والنصرة له.قيل: ويحتمل أن يكون الضمير في: قال، على كل فرد فرد من النبيين، أي: قال كل نبي لأمته: أأقررتم، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم، بل طالبوهم بالإقرار بالقبول.ويكون: إصري، على الظاهر مضافاً إلى الله تعالى، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافاً إلى النبي والإصر: العهد لأنه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد. وقرئ بضم الهمزة، وهي مروية عن أبي بكر عن عاصم، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في: اصر، كما قالوا: ناقة أسفار عبر، وعبر أسفار، وهي المعدّة للأسفار. ويحتمل أن يكون جمعاً لإصار، كإزار وأزر ومعنى الأخذ هنا: القبول.{قالوا أقررنا} معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته، وقبلنا ذلك والتزمناه. وثم جملة محذوفة أي: أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها.{قال فاشهدوا} الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق: فاشهدوا، ومعناه من الشهادة أي: ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر، قاله مقاتل. وقيل: فاشهدوا هو خطاب للملائكة، قاله ابن المسيب. وقيل: معنى: فاشهدوا، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به، وأصله: أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى، قاله الزجاج، ويكون: اشهدوا، بمعنى: أدّوا، لا يمعنى: تحملوا. وقيل: معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له، قاله ابن عباس. وقيل: فاشهدوا، خطاب للأنبياء إذا قلنا: إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم، وروي هذا عن عليّ بن أبي طالب.وعلى القول: بأن المعنى في: قال أأقررتم، أي: قال كل نبي، يكون المعنى على بكل نبي لأمّته فاشهدوا، أي: ليشهد بعضكم على بعض. وقوله: فاشهدوا، معطوف على محذوف التقدير، قال: أأقرتم فاشهدوا، فالفاء دخلت للعطف. ونظير ذلك قوله: ألقيت زيداً؟ قال: لقيته! قال: فأحسن إليه. التقدير: لقيت زيداً فاحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء، ألا ترى قال: أأقررتم، وقوله: قالوا أقررنا؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء.{وأنا معكم من الشاهدين} يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد، ويحتمل أن يكون جملة حالية.
|